الحبُّ في زمن النُبوَّة: زينب وَأبو العاص بن الربيع.

قبل الزواج: 
كان أبو العاص شديدُ التعلُّق بخالتهِ (خديجه بنت خويلد) فكان يزورها كثيرًا، وكان حين يأتي تفرح زينب ويرق قلبها له، وتستمتع بأخباره، وكان يتوسَّم بها كل ما أتى بيت خالتهِ من جمالها وأنوثتها، وهكذا تفتَّح القلبان.

الزواج: 
خطبها أبو العاص من الرسول صلَّ الله عليه وسلم، ولكنه استأذنهُ بسؤال صاحبة الشأن، فأتاها ثم قال: 
- "بُنيتي زينب، إن ابن خالتك أبا العاص بن الربيع ذكر اسمك..."
فسكتت زينب حياءً ولم تُحْرِ جوابًا.
ولكن نبضات قلبها، وغضها بصرها حياءً، كانا الجواب.
فعاد صلَّ الله عليه وسلم إلى أبي العاص وصافحه مهنئًا وداعيًا مباركًا. 

في بيت الزوجية:
كان أبو العاص تاجرًا كثير السفر، فكانت تبكي زينب من ألَمِ فراقهِ، وكان يعاني هوَ من ألَمِ البُعاد، وهاج به الشوق مرّة في إحدى رحلاته فأنشد يقول: 
- ذَكرتُ زينبَ لما ورّكاْ إرَما، فقلتُ سُقيا لشخصٍ يسكنُ الحَرما
- بنتُ الأمين جزاها اللهُ صالحةً، وكُل بعلٍ سيثني بالذي عَلِما

وأنجبت منهُ علي وأمامة.

مفترق الطرق: 
لما آمن اهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل بدء الدعوة الجهرية، وحين عاد أبو العاص من أحد رحلاته التجارية، أخبرته أنها تبعت دين أبيها، فقال لها:
- "والله ما ابوكِ عندي بمتَّهم، وليس أحب إلي من أن أسلك معكِ ياحبيبة في شِعبٍ واحد، لكنّي أكره لكِ أن يقال إن زوجكِ خذل قومهُ وكفر بآلهة آبائه، إرضاءً لإمراته، فهلّا قدّرتِ وعذرتِ؟" 

وهما بعناقٍ، ثم ما لبثا أن تراجعا فجأة وكأن حاجزًا آلَ بينهما، ولم يناما ليلتها ولم يفعلا بعدها.

الأسر الأول والفراق الأول:
أَسر المسلمون أبو العاص، فبلغت زينب خبره، فأرسلت بقلادة أمها خديجه -رضي الله عنها- وكانت قد أهدتها إياها حين زواجها لتفادي أسرهُ بها، فوصلت القلادة للرسول صلَّ الله عليه وسلم فرآها فصمت طويلًا حتى خشعت أعين الصحابة من الموقف، فقال: 
- "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها فافعلوا."
فقوافق الصحابة وردوا لها زوجها وقلادتها.

ولكن الرسول صلَّ الله عليه وسلم وصّى أبو العاص أن يرسل إليه زينب، فوعدهُ.
حتى رجع إليها فأستبشرت وهو حزين، فقال: 
- جئتُكِ مودّعًا يا زينب.
"مهما يحدث يازينب فسأبقى على حُبّك ما حييتُ وفيًا، وسيبقى طيفك أبدًا ملء هذه الدار التي شهدت أحلى وأطيب أيام حياتنا." 
وعلى مضضٍ خرجت وهي تبكي، فعلمت قريش فآذوها، الى أن نزفت دمًا وأجهضت، فحماها أبو العاص حتى هدأت قريش فأرسلها مع أخيه كنانة، وقال كنانة: 
-"والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهمًا" فتركه الناس. 

الأسر الثاني: 
خرج أبو العاص إلى الشام في عيرٍ لقريش، فبلغ المسلمون ذلك، فأسروا أبو العاص، فأتى زينب يستجيرها، وإذا الناس في صلاة الفجر، قامت زينب على باب أبيها وقالت: 
- إني أجرت أبا العاص بن الربيع. 
فخرج الرسول صلَّ الله عليه وسلم، فقال: 
- "أيها الناس هل سمعتم ماسمعت؟"
فأجارُوه، فدخلت عليه زينب تسأله أن يُرد على أبي العاص ما اُخذ منه، ففعل، وقال:
- أي بنيّة أكرمي مثواه، ولا يخلص إليك فإنك لا تحلين له مادام مشركًا.

العودة إلى الحبيبة:
فرجع إلى مكة، وآتى قريش ما لها عليه، ونادى فيهم: 
- يامعشر قريش، هل بقي لأحدٍ منكم عندي مال لم يأخذه؟ 
فقالوا: لا.
فقال:
- " فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما أدَّاها الله إليكم وفرغت منها أسلمت"
ورجع اإلى المدينة وإلى حبيبتهِ زينب، فردها الرسول صلَّ الله عليه وسلم له على نكاحهم الأول، وعاد السرور والحب يجمعهما.

الفراق الأبدي: 
بعد عام واحد من عودتهما وإسلامه والمكوث في المدينة، توفى الله زينب في مستهل السنة ٨هـ متأثرةً بالنزيف الذي لازمها منذ هجرتها. 
فبكى أبو العاص بكاءً حارًا وتشبّثَ بها حتى أبكى من حوله... 
فأتى الرسول صلَّ الله عليه وسلم دامع العين، وقال:
-"اِغسلنها ثلاثًا، واجعلن في الآخرةِ كافورًا" (أي في الثالثة).
ثم صلى عليها، وشيعها إلى المقر الأخير.

ما بعد الفِراق:
وعاد أبو العاص إلى ولديه: علي وأمامة يُقبِّلهما، ويبللهما بدموعهِ مستذكرًا وجه حبيبتهِ رضي الله عنها.

ولم يتزوج بعدها أبدا، حتى توفاه الله، رضوانهُ عليه.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق